حسّان فلسطين: الشعر كما أريد أن يكون | أرشيف

اليعقوبيّ في أقصى يمين الصورة.

 

المصدر: «مجلّة المعرفة».

زمن النشر: 1 أيلول (سبتمبر) 1932.

الكاتب: علي أحمد عامر.

 


 

كان بين ضيوف القاهرة من شهرين، الأستاذ أبو الإقبال سليم اليعقوبيّ، الشاعر الفلسطينيّ أو ’حسّان فلسطن‘ كما يلقّبه مواطنوه. وكانت أيّام إقامته في القاهرة مثار جلسات شيّقة طالما تنادر خلالها جمهرة من أصدقاء «المعرفة» ومعهم الضيف الكريم في «دار المعرفة» بأشتات من الأحاديث الطريفة الّتي كانت عذوبتها وروعتها فوق ما يستطيع البيان أن يؤدّيه. وما في ذلك من ريب. 

إنّ الأستاذ اليعقوبيّ أحد أولئك القلائل من رجالات الشرق الّذين أتيحت لهم أسباب التجوال في شتّى ممالكه، وهو إلى ذلك صورة تجتمع فيها ألوان يتميّز بعضها عن بعض، فقد كان طالبًا في «الأزهر»، ثمّ كان عالمًا من خرّيجيه، ثمّ كان أحد الدعاة الّذين عصفت بهم أعاصير السياسة حتّى دفعت به إلى مالطا، ليأخذ نصيبه من الاعتقال أيّام الحرب، ثمّ كان إلى ذلك أحد الّذين وُضِعَتْ على كواهلهم بعض مناصب القضاء في «الأستانة»، في عهد الدولة العليّة. ثمّ أصارته الحوادث في منصب الإفتاء في مدينة يافا، حتّى إذا ما انصرفت فلسطين عن وضعها السياسيّ السابق واستحالت إلى دولة تحت الاستعمار البريطانيّ، كان من حظّ الأستاذ اليعقوبيّ أن تغرّبه ’الظروف‘ عن منصبه، وأن ينتهي به الأمر إلى أن يكون مدرّسًا في مدرسة دينيّة، قانعًا من نعمة الحياة بهذه المتعة الّتي يرتضيها ’الشاعر‘ من خلجات نفسه، راضيًا أن يكون شعره خير غذاء لحواسّه جميعًا.

وليس من شكّ في أنّ الأستاذ اليعقوبيّ جدير بأن يلقّبه مواطنوه بـ ’حسّان فلسطين‘؛ فإنّ لشعره قوّة تفيض بسحرها على الناس، تتعهّد القلوب الضعيفة بأسباب الحياة. وقد يكون من حقّ «المعرفة» أن تذيع لقرّائها حياة ’حسّان فلسطين‘ حتّى يتلمّسوا فيها من ظواهر النبل، وحتّى يُلِمُّوا إلى ذلك بناحية يستوعبون فيها صورة رجل من رجال الشرق النابعين، والحقّ أنّ هذه الحياة جديرة بالذيوع.

وبعد، عسى أن يكون في ذلك الحديث الّذي تفضّل به الأستاذ اليعقوبيّ على أحد محرّري «المعرفة» ما يشيع من ألوان تلك الحياة الرائعة.

 

الشعر كما أريد أن يكون

قال الأستاذ اليعقوبيّ: "لا أحبّ في الشعر هذه الجوانب الّتي يتوفّر بها عليه عديد من الشعراء، جوانب الرثاء والمديح واستجداء الأكفّ؛ فإنّ شعر الرثاء متى خرجنا به إلى موطن الحقيقة، ألفينا عليه مسحة الجمود، كما أنّ شعر المديح يبدو لمن يستوعبه أنّه قطع متراصّة من الحجر الصلد، وليس ذلك لأنّي أريد أن يبيد شعر الرثاء أو المديح، وإنّما أرجو من وراء تصويري لتلك الظاهرة أن يدرك الشعراء بأنّ خيالهم أسمى من أن يتتبّع الأحياء والأموات خطوة خطوة، وأنّ عليهم ألّا يسجّلوا من هذه الأسماء في قصائدهم إلّا من احتمل اسمه وجبة من الخير، أو صنيعًا يتسحقّ الإطراء عليه حيًّا، ويستحقّ البكاء من أجله ميتًا.

لقد ابتذل الشعراء خيالهم إلى حدّ شنيع، فالكثيرون منهم قد أوقفوا ذلك المخيال على متابعة الناس، سواء منهم مَنْ تتّصل حياته بالجماعة، أو مَنْ لا تعرف الجماعة من أمره شيئًا، وفي يقيني أنّ هذه الحالة تباعد عن الشعر سموّه وجلاله.

ويضيف: "أمّا شعر ’الاستجداء‘، فأحمد الله على أنّه لم يكن حتّى اليوم خطيرًا، ولكنّه على أيّ حال قد خرج إلى الضوء؛ فهناك حشد من الشعراء لا ترى لهم نتاجًا إلّا حين تقع معه على مناسبة عامّة تدعوهم إلى القول، وفي هذه المناسبات طالما كدّ الشعراء قرائحهم حتّى يصيبوا هناءة العيش، لكنّهم لم يفطنوا إلى الحقيقة الخالصة الواضحة، وهي أنّ الشعر لا تجدر له مواقف الرياء، وأنّ هذه الظاهرة كانت بين العرب داعية تأخّرهم في تصوير الروح الاجتماعيّ تصويرًا شعريًّا دقيقًا".

 

شاعر لا يعرف الهجو

واستطرد الأستاذ اليعقوبيّ: "لقد رأيت إذن أنّي لا أقدر على هذا الشعر الفجّ الّذي تجري به ألسنة الشعراء في الأفراح والمآتم والمناسبات، لكنّي لا أستطيع أن أقول لك إنّ هناك رجالًا لا محالة للشعر من أن يبعث بهم إلى الخلد، هم أولئك الّذين أصبغوا على أمّتهم – مجتمعة – من أياديهم ما يمسح عنها أوضار الشقاء" .

يكمل: "وثمّة ظاهرة أخرى في الشعر العربيّ أرى من حقّى حتّى أن أفاخر – في صددها – بأنّها لم تنفذ إلى خيالي، ولم تجد لها بين جوانحي مكانًا؛ تلك هي ظاهرة الهجو الّتي تدفع بالشاعر إلى أن يشبع أخصامه بالكلم المقذع والتقريع المرير. لقد كانت هذه الظاهرة أشنع ما في الشعر العربيّ من وجوه، لكنّ العصر الحديث قد بدأ يقوّضها وإن لم يقضِ عليها حتّى اليوم. وإنّي بوصفي شاعرًا أستطيع أن اقول إنّ كلمة واحدة من كلمات الهجو لم يجرِ بها لساني ولم يسطّرها قلمي".

 

كيف أضع قصائدي؟

"تسألني كيف أضع قصائدي؟ فأجيبك أنّي أتخيّر هدأة الليل لأخلو فيها إلى قلمي، فإنّ صمت الليل البليغ كثيرًا ما يجمع أشتات الحواسّ، ويؤلّف منها شعلة واحدة تسكب على الخيال ما يريده من ضوء، وترى أنّي إلى ذلك أحبّ الحدائق حبًّا جمًّا، لأنّي حين اقتعد ذلك البساط السندسيّ، وأرسل الطرف في ما حولي من زهر ودوح أستطيع أن أضع ’قصيدتي‘ في كثير من السهولة، وأن أتخيّر ألفاظها من ذلك الوحي المزدحم في رأسي، ذلك الوحي الّذي دفعته ’الطبيعة الفاتنة‘ إليّ دفعًا".

سألت الأستاذ اليعقوبيّ عن الشعراء الّذين يقدّرهم، فأجاب: "أقدّر البحتريّ، لأنّه يجمع في قصائده إلى الكلم الفخم روعة الموضوع ودقّة الوصف وقوّة التصوير، ولأنّه إلى ذلك شاعر غير مدّاح، وغير متعنّت ولا متطيّر، فهو رصين ورزين يعرف موقفه ويدري كيف يقدّر ما حوله. وأقدّر المتنبّيّ، لأنّه قد أربى في شعر الحكم على الغاية، ولأنّه كان في ذلك اللون من الشعر مجدِّدًا لا يستطيع أحد أن يقول إنّ هناك مَنْ سبقه وكان في مثل افتتانه وجزالته، ولقد كان المتنبّي شاعرًا ’متحضّرًا‘، يعني ما يقول ويعرف كيف يقتنص فريسته في يسر وأناة، وحسبه تلك الميزة ليعرف الناس أنّه كان شاعرًا فحلًا، وأنّ شعره كان رائع الأثر قويّ النفوذ. وأرى قبل اختتام هذا الحديث أن أذكر لك إعجابي التامّ الّذي لا يُحدُّ، وتقديري العميق الّذي لا يوصف، لمجلّة «المعرفة» الّتي أرى بدايتها خيرًا من نهايات، فهل لك أن تسجّل ذلك بالأصالة عن نفسي، وبالنيابة عن معشر المثقّفين الفلسطينيّين الّذين يتتبّعونها بشغف وشوق شديدين".

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.